الجن والإنس في القرءان الكريم
يعتبر وجود نوعين من المخلوقات وهما الإنس المخلوق في أصله من التراب والجن المخلوق في أصله من النار من البديهيات التي تعلمناها ولم يكن هناك مبرر لتناول هذا الأمر حتى الآن بالشك. ولكن هل يؤيد النص القرءاني حقيقةً هذا المفهوم!
من هو إبليس؟
واضح من النصوص القرءانية المتعددة أن إبليس كان من الملائكة، فعلى سبيل المثال في النص التالي يتبين أن الله تعالى دعى الملائكة للخضوع لأمره في خدمة آدم (السجود) ولكن أبليس قد أبي واستكبر، فلا شك إذن أنه من الملائكة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٣٤)) سورة البقرة
وفي النص التالي أيضاً تأكيداً على أن إبليس واحداً من الملائكة (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿١١﴾) سورة الأعراف
وهنا أيضاً تأكيد آخر على أن إبليس هو واحد من الملائكة (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٣٠﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴿٣١﴾) سورة الحجر
ولكن كان هناك نص قرءاني دائماً يدعو للتساؤل عن ماهية إبليس وأي نوع من المخلوقات هو، هذا النص من سورة الكهف (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴿٥٠﴾) سورة الكهف
في النص السابق من الواضح أن أمر السجود كان موجهاً فقط إلى الملائكة، فسجدوا أجمعين إلا واحداً منهم هو الملاك إبليس، ثم يضيف النص أن إبليس كان من الجن!
فكيف يكون إبليس هو أحد نوعين مختلفين من المخلوقات في نفس الوقت؟ وهذا ليس له تفسير إلا شئ من إثنين:
- القرءان الكريم يناقض بعضه بعضاً.
- مفهومنا المتوارث عن المقصود بتعبير الجن في القرءان الكريم هو خطأ.
وبالنسبة لمن يعتقد في أن القرءان الكريم هو كتاب الله الأخير إلى البشر أجمعين (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، فلا يبقى إمامنا إلا الإختيار الثاني، أننا قد ورثنا مفهوم خاطئ عن الجن وأنهم نوع من مختلف من المخلوقات بجانب الملائكة والإنسان.
ومما تقدم من أن الملاك إبليس كان من الجن، فأعتقد أن الجن هنا ليس مخلوق مختلف بل هم صنف من الملائكة أو درجة وظيفية لبعض الملائكة. فإبليس كان واحداً من الملائكة بدرجة جن أو من طبقة الملائكة الجن.
من هم الجن المذكورين في القرءان
بالإضافة إلى ذكر وجود طبقة الجن في الملائكة كما سبق معنا، فقد جاء في مواقع آخرى من القرءان ذكر نوع آخر من الجن، الذين أعتقد أنهم أيضاً طبقة أو درجة من المخلوق الآخر وهو الإنسان.
ومن المُلاحظ ورود كلمتي الجن والإنس متلازمتين 9 مرات في النص القرءاني، ولكن لم ترد كلمتي الجن والإنسان أو الجن والبشر أبداً معاً. وعلى ما يبدو لي أن الإنسان يحتوي على الجن والإنس.
الإنسان = الجن + الإنس
فالجن هنا أيضاً هو طبقة معينة من الإنسان (كما هو طبقة من الملائكة) والإنس هو الطبقة الآخرى، والدليل على إن الجن والإنس هم مخلوق واحد وهم نحن الإنسان:
1- (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿١٢٨﴾) سورة الأنعام
يتحدث النص السابق عن صنفين من الداخلين النار يوم القيامة، مجموعة من الجن يناديهم الله تعالى بأنهم قد أضلوا الكثير من الإنس، ويقول من والى هذا الجن وإتبعهم من طبقة الإنس (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) أي أننا كنا نتبادل المنفعة والمصالح.
فهل نرى على الأرض مخلوقات آخرى إسمها الجن التي يتحدث عنها هذا النص القرءاني تقوم بإضلال الكثير من الإنس؟ أو أن هناك على الأرض الكثير من الإنس يوالون مخلوق آخر ويتبادلون معه المصالح؟ والجواب هو أنه لا يوجد أي مخلوق آخر يتصل بالإنسان وبينهم هذه العلاقات التي يتحدث عنها هذا النص القرءاني. فهذا النص يتحدث عن الإنسان فقط، حيث يبدو أن الجن هم الإنسان الأقوى صاحب السلطة والإنس هم الطبقة التابعة له، لذكر النص أن الجن هو الذي استكثر من الإنس وأضله وقاده إلى النار.
2- (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴿٦﴾) سورة الجن
يتحدث النص هنا صنفين من الرجال، الْإِنسِ يستجيرون بالصنف الثاني من رجال الْجِنِّ فما زادوهم إلا ضلالاً. فهل يوجد دليل واضح على الأرض أن هناك مخلوقات غير الإنسان وأن بينهم وبينه علاقات ومعاملات؟ الموجود ونعرفه عن الإنسان أن ضعيفهم (الْإِنسِ) يستجير بذوي السلطة منهم (الْجِنِّ)، وهذا ما يقوله النص بأن الإنس والجن يعرفون بعضهم وبينهم علاقات وهذا ما نعرفه فقط بين بني الإنسان.
3- (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴿٢٩﴾) سورة فصلت
والنص السابق يتحدث أيضاً عن موقف للكفار يوم القيامة يريدون الإنتقام من اللذين أضلاههم من الجن والأنس بصيغة المثنى، أي أن هناك من الجن والإنس كانا معاً مسئولين عن عملية إضلال المُتكلم من الكفار في هذا النص. فمن الواضح هنا أيضاً أن الجن (صاحب السلطة) والإنس (من يتبادل معه المصالح ويتبعه) هنا قد فعلوا شيئاً مجتمعين تأييداً على أنهما صنفين من نفس المخلوق الذي يعيش متفاعلاً أحدهما مع الآخر.
4- (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَـٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿٤٠﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿٤١﴾ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿٤٢﴾) سورة سبأ
يصف النص السابق موقفاً للملائكة يوم القيامة يقولون أن المشركين كانوا يعبدون الجن، فهل ترون على الأرض أحداً من الإنسان يعبد مخلوق مختلف اسمه الجن؟ أم أن الإنس التابعين المُقلدين يعبدون مثلهم من بني الإنسان من أصحاب السلطان الديني.
5- (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٤﴾) سورة إبراهيم
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿١٣٠﴾) سورة الأنعام
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿٢٩﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٣٠﴾) سورة الأحقاف
تبين النصوص السابقة شيئين هما: أولاً أن الله تعالى يرسل الرسل إلى أقوام مثلهم وليس إلى جنس آخر من المخلوقات. ثانياً أن الجن مأمورين بإتباع الرسل موسى ثم محمد. فيبدو لي من هنا أيضاً أن الرسل موسى ومحمد هم من نفس المخلوقات التي ينتمي إليها الجن أي أن كل منهما إنسان.
الفرق بين الجن والإنس
فكما رأينا في حالة الملائكة في البداية، ذكر القرءان بأن الملاك إبليس كان من الجن، وقد يعنى هذا أنه كان في مرتبة ربما قيادية بين الملائكة ولذا جاء في النص أنه من الملائكة ومن الجن في نفس الوقت (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)
أما في حالة الإنسان، فيبدو مما تقدم من نصوص قرءانية أن الجن هم طبقة تقود الإنس (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ)، وأن هناك من يعبدهم من دون الله (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ)، وقد جعلهم البعض شركاء لله (وَجَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ)، ومن هذا يبدو لي أن الجن هو الطبقة المهيمنة على غيرها من الإنسان فهم من يمتلكون السلطة على الثروة أو السلطة السياسية أو الدينية. أما الخارج عن هذا النطاق من الإنسان فقد أطلق عليه النص القرءاني الإنس.
ويؤيد ذلك أيضاً نص سورة الأنعام التالي الذي يتحدث عن إفساد الأكابر في القرى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿١٢٣﴾ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ ۘ اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّـهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴿١٢٤﴾..)
ثم يخاطبهم القرءان بمعشر الجن وأنهم قادوا الكثير من الإنس إلى الضلال (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿١٢٨﴾) سورة الأنعام
والله تعالى أعلم
توضيح
المقال هنا لايتناول الحديث عن الجان بل الجن، فهناك فرق، فتعبير الجن في القرءان أرى أنه صفة لفئة من البشر كما أنه صفة لفئة من الملائكة، فالجن ليس مخلوق كلفه الله تعالى بالرسالات مع الإنسان. والوحيد الذي حمل الأمانة من مخلوقات الله تعالى هو فقط الإنسان (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴿٧٢﴾) سورة الأحزاب
تابع هنا موضوعنا الثاني بعنوان معنى الجان في القرءان الكريم
التعليقات على الموضوع (42)