كيف ولدت مريم - 2
﴿...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَـٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾﴾ سورة آل عمران
(مسارات أخرى للتدبر في آيات القرءان العظيم المتعلقة بولادة مريم)
أقول وبالله التوفيق .. حينما كان يتردد زكريا على مريم في المحراب كان يجد عندها رزقا. فهل كان يسألها في كل مرة يدخل عليها المحراب ويرى ذلك الرزق أم أن هذه هي المرة الأولى التي سألها فيها بقوله ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا﴾. فمن المصرح به في الآية أنه كان يرى عندها ذلك الرزق كلما دخل عليها، ولم يكن ذلك مثار إستغراب لديه لأنه نبي ويعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب أخذا في الإعتبار أن السيدة مريم كانت ملتزمة المحراب تتعبد الله فيه.
ولكن بالتدقيق في السؤال الذي طرحه زكريا والجواب الذي ردت به مريم، نلاحظ أن هناك ضميرين في الخطاب ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا﴾ و ﴿هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾ فمالذي لفت إنتباه زكريا لذلك الشيء بحيث أشار إليه باسم الإشارة (هذا) ولماذا لم تجبه مريم بقولها (إنه من عند الله) بل قالت ﴿هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾. هل كان السؤال بمعنى الإستيضاح عن مصدرية (هذا) أي بمعنى (من أين لك هذا الرزق يا مريم)؟ ولماذا السؤال؟ فقد كان يراه زكريا كلما دخل عليها. ولماذا أجابت مريم بـ (هو)؟ هل كانت هي الأخرى تعني الرزق ذاته الذي سأل عنه زكريا؟
أم أن القضية أكبر من مجرد سؤال وجواب يحكي قصة أنثى في محراب؟
أقول: أعتقد بأن زكريا قد رأى شيئا يستحق السؤال عنه. وأن هذا الشيء لا يستقيم السؤال عنه إلا باسم الإشارة (هذا) فما هو يا ترى؟. فعلى إفتراض أن هناك أنواع كثيرة وأشكال متنوعة وأصناف متعددة من الرزق كانت عند مريم في ذلك المحراب، إلا أن زكريا بسؤاله كان يشير إلى نوع من الرزق محدد بعينه وبذاته بحيث إقتضى الأمر الإشارة إليه بالضمير (هذا) فهو ليس ذاك أو ذلك وإنما <<<< (هذا).أليس كذلك؟.
وحينما أجابته مريم كانت تعلم أن زكريا كان يقصد نوعا من الرزق معين ومحددا بذاته فأجابته بالضمير <<<< (هو). ولكي نستغرق في تدبرنا جميع الإحتمالات المنطقية حول هذا السؤال بهذه الطريقة ، نقول لماذا لم يقل زكريا (أنى لك هذه) بالتأنيث إذا كنا نتحدث عن فاكهة الصيف قد جاءتها في الشتاء أو العكس كما قيل لنا، وبناء عليه لماذا لم تجبه مريم بقولها (هي من عند الله) إلا إذا كان الشيء موضوع السؤال مذكرا بحيث يقتضي إسم الإشارة (هذا) وضمير الغائب (هو).
كما أنها لو قالت (إنه من عند الله) لتوقفنا بتدبرنا عند مجرد الإعتقاد بأنه رزق من عند الله مثله مثل أي رزق آخر يبعثه الله ، ولكن ما يثير فضولي هنا هو: لماذا سألها زكريا؟ ولماذا لم يسألها في أول مرة رأى عندها أنواع عديدة من الرزق؟.
ثم أن أسلوب الإستفسار المطروح من قبل زكريا لماذا إبتدأه بـ ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا﴾؟ هل كلمة (أنى) تعني (من أين) أم هل هو من باب إستحالة حصول هذا الرزق لمن هو مثل مريم!! وهل كان ذلك الرزق معروفا لزكريا ومجهولا للسيدة مريم؟ هل إمرأت عمران لها علاقة بذلك المعلوم المجهول؟ ثم أين اختفت إمرأت عمران بعد أن وضعت ما في بطنها؟ هل ما كان في بطن إمرأت عمران هو مريم؟ أم أنها كانت تتحدث عن شيء ما كان ببطن دارها على غرار قوله تعالى (ببطن مكة)؟ وهل الآيات تتناول مجرد قصة ولادة؟ أم أن قضية أكبر وأجل وأعظم من مجرد تأطيرها واختزالها في صورة أمرأة تضع ما في بطنها!!؟
إن الحديث عن هذه الآية الكريمة يدفع بنا بقوة تجاه البحث في كتاب الله أملا في التعرف على ماهية الأمور التي هي في طبيعتها (من عند الله) لكي يتضح لنا القصد وبالتالي سد أبواب الشك بثوابت الحقيقة المستمدة من كتاب الله العظيم القرءان.
أولا: لنسأل: ما هي الأمور التي يجوز عليها وصف مصدريتها بالعندية من الله (من عند الله)؟
الجواب: دعونا نستعرض حصرا للآيات الكريمات التي وردت فيها كلمة (من عند الله): قال تعالى ما يلي:
1- ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ...﴿79﴾﴾ سورة البقرة
2- ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَــٰبٌ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ...﴿89﴾﴾ سورة البقرة
3- ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ... ﴿101﴾﴾ سورة البقرة
4- ﴿ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله ...﴿103﴾﴾ سورة البقرة
5- ﴿...قَالَ يَـٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ...﴿37﴾﴾ سورة آل عمران
6- ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ ٱلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَٱبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ ٱلْكِتَــٰبِ وَمَا هُوَ مِنْ ٱلْكِتَــٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ... ﴿78﴾﴾ سورة آل عمران
7- ﴿.. وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّآ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴿126﴾﴾ سورة آل عمران
8- ﴿.. ثَواْبًا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ واْللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴿195﴾﴾ سورة آل عمران
9- ﴿.. نُزُلًا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَار ﴿198﴾﴾ سورة آل عمران
10- ﴿... قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ... ﴿78﴾﴾ سورة النساء
11- ﴿ .. وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿10﴾﴾ سورة الأنفال
12- ﴿...تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً طَيِّبَةً..﴿61﴾﴾ سورة النور
13- ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ..﴿49﴾﴾ سورة القصص
14- ﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ أَن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ...﴿52﴾﴾ سورة فصلت
15- ﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ أَن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ...﴿10﴾﴾ سورة الأحقاف
خلاصة:
من الآيات الكريمات نقرأ إن الأمور التي من عند الله وردت بصراحة في الكلمات أو الضمائر السابقة لكلمة ﴿مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾ وهي: (هذا – كتاب – رسول – مثوبة – هو – ثواب – نزلا – النصر- تحية – كان – كل - إلا) وحينما نستثني الكلمات الصريحة أو الكلمات المشار فيها إلى صريح من هذا التدبر فيبقى لدينا الضميرين (هذا – هو) ولكي نستوضح أكثر نلاحظ أن الضمير (هو) ورد مرتين في إشارة واضحة إلى أن المقصود بالضمير (هو) إنما يعنى به (الكتاب) سواء كان في حالة النفي أم كان في حالة الإثبات الوارد في قوله تعالى (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله...الآية)
وباستخدام ضمير الغائب (هو) يمكن التعرف على المقصود باسم الإشارة (هذا) ، فإذا كانت الآيات تشير إلى أن ضمير الغائب (هو) يقصد به الكتاب إذن فإسم الإشارة (هذا) يقصد به الكتاب أيضا ، ولو أعدنا قراءة الآية الكريمة بهذا المفهوم اللغوي لكان مما تشير إليه ( قال يا مريم من أين لك الكتاب) أو (قال يا مريم يستحيل لك الكتاب)، هذا إذا سلمنا بأن معنى كلمة (أنى) تعني من أين أو الإستحالة، وبحكم أن زكريا يعرف الكتاب وهو من أهل الكتاب ونبيهم فبالتالي كان الكتاب الذي رآه لأول مرة عند مريم مثارا لإستغرابه ودهشته مما دفعه إلى السؤال عنه بأسلوب ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا﴾ من باب هو أقرب للإستحالة أن يؤتى كتاب الله لأحد من خارج بيت يعقوب فما بالك إذا كان ذلك المؤتى أنثى. علما بأن مريم كانت تعلم بمصدرية (هذا) المسؤول عنه إلا أنها لم تكن تعلم بماهيته لذلك أجابت عنه بأسلوب الغائب غير المعلوم لديها ﴿هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾.
ولو كان ما رآه زكريا عند مريم محض أكل وشراب متعدد ومتنوع كما نظن لكان من البدهي أن يدعو زكريا ربه بأكل وشراب مماثل كما لمريم ، أليس كذلك؟ ولكن الذي حصل عكس ما نتوقع فزكريا ذهب يدعو ربه بالذرية الطيبة ، وما ذلك إلا لأن إيمان زكريا الراسخ بأن الكتاب لا يؤتى إلا لنبي أي (ذكر) وهو ما يصادق عليه القرءان العظيم حيث لم يرد في القرءان العظيم عن نبي أنثى أو رسول أنثى، لذلك سارع زكريا في التو واللحظة إلى دعاء ربه أملا أن يكون الكتاب الذي رآه عند مريم قبل قليل هو لأحد ذرية يعقوب أي أحد أبناء زكريا، بحكم أنه آخر الذرية في ذلك البيت المصطفى فقال تعالى (هنالك) على غرار (فراغ إلى أهله) ولم يقل (حينئذ) أو (عندئذ) ليتبادر لأذهاننا بذلك معنى لحظية الفعل.
وفي نفس المكان الذي هو المحراب جاءت البشرى لزكريا (..أن الله يبشرك بيحي... الآية) ولكن هذه البشرى لم تأت على غرار المعهود في البشائر السابقة لأبيه إبراهيم بل جاءت ملحوقة بعبارة (..مصدقا بكلمة من الله)، ولو دققنا النظر في الكلمات القرءانية للاحظنا أن زكريا لا يزال آملا في ذلك الكتاب الذي يراه أمامه الآن نصب عينيه عند مريم ومتطلعا إلى إستكمال شرف الإصطفاء الإلهي لبيت آل يعقوب فذهب يستوضح بعبارات ملؤها المعرفة التامة بنوعية ما يطلبه فهو لا يريد إبنا عاديا أو ولدا عاديا بل يريد ذرية وبمواصفات محددة ومعينة يعرفها ربه لذلك فهذه النوعية من الذرية لا ينطبق عليها إلا باختزالها بكلمة (غلام) فاستخدمها قائلا (أنى يكون لي غلام) واستخدامه لها بهذا الأسلوب أرى أنه جاء من باب الإستشراف والتسليم بحتمية النتيجة أي بمعنى أن الذي إستجاب دعائه ووهب له يحى بهذه المواصفات فمن باب المؤكد أن يحي سيكون غلاما أي (صاحب رسالة).
بمقدورنا الآن أن نتصور ماذا كان يدور في خلد النبي الكريم زكريا: فها هي البشارة الآن قد حصلت والحمد لله وهذا هو الكتاب موجود عند مريم فماذا بقي يا ترى؟ لم يبق إلا أن يعطى الكتاب لمن إصطفى الله آباءه وأجداده من قبل أي يحي.
ومصداقا لما ذهبنا إليه ، ها هو ذا زكريا أيضا يعيد الكرة مرة أخرى فهو لم يفقد الأمل في الإستيضاح فارتقى بطلبه إلى مستو أعلى من مستوى طلب الذرية فقال (رب اجعل لي آية) والآية هنا تعني (علامة) بالمعنى الشعبي (المارية) وطالما أنه دعا ربه بالذرية فأعطاه إياها وطالما أن البشارة هي سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين إذن فمن باب أولى أن تكون العلامة التي وضعها زكريا في مخيلته أو في تصوره هو أن يقول له ربه – نحن نفترض - أن الآية هي: (أنك ستجد كتابا عند مريم فيه كلمة من الله) ، ولكن الرد جاء على غير المتوقع (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) بمعنى صم واذكر ربك وسبح بالعشي والإبكار. هذه هي آية زكريا التي جعلها له ربه. ماذا يعني ذلك كله؟ ماذا تعني هذه الآية؟ فهي لا شك أعمال صالحة كان ولا يزال زكريا يقوم بها! أليس هو نبي الله؟ إذن فما الهدف من إعادة التأكيد عليها؟.
أنا أقول: والله أعلم أنه بهذه الآية الجامعة لأفعال الصالحات أن التحول قد تحقق ولم يبق أمام زكريا سوى الإستمرار في عمل الصالحات التي كان يعملها من قبل في المحراب والرضا بواقعية الإصطفاء لبيت آل عمران والتسليم لله وقدره. قال تعالى (يا مريم) وكلنا نعلم أن مريم ابنت عمران من خارج بيت آل يعقوب (يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين)
طيب؟ لحظة!! والكتاب؟ أين الكتاب الذي تحدثت عنه في كل هذا الكلام الطويل العريض المسهب الممل؟ أصبح من نصيب من؟ ما هو مصيره؟ أين مآله؟
الجواب: أسأل الله العليم الخبير أن يفتح لي من عنده باب علم يعينني به على إكمال هذا التدبر ونورا من عنده ينير به بصيرتي ويهديني به إلى صراط العزيز الحميد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
Tags: القصص القراني, عيسى, مريم , التفسير, التدبر
التعليقات على الموضوع (6)