هل الإنسانية بحاجة لنزول النبي عيسى
بسم الله وبه نستعين
مدخل
بداية لابد من الاتفاق على أن النبي عيسى هو كائن بشري وُلد في زمن ماض قبل النبي محمد، ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾﴾ سورة المائدة، وبُعث لبني إسرائيل ويتكلم بلسانهم، ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾﴾ سورة آل عمران، وتعرَّض لمؤامرة كبيرة من قبل اليهود كادوا أن يقتلوه بصرف النظر عن الصورة التي كانت مُبيَّتة له لولا أن أنقذه الله منها. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴿157﴾ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿158﴾﴾ سورة النساء
والنقطة الثانية في البحث: إن الوجود الموضوعي والسنن هي الأصل والأقوى في فهم النصوص اللسانية، وما ينبغي بناء مفهوم موضوعي من أهداب نص لساني بمعزل عن الواقع والسنن والأمور الثابتة المحكمة، وأي نص لم نستطع دراسته وفهمه يتوقف دراسته حالياً ولا ننقض المفاهيم الثابتة .
وهذه الأخبار الإيمانية لابد أن تثبت بالنص القرءاني القطعي الدلالة وليس بأحاديث منسوبة للنبي يصححها زيد ويضعفها عبيد وهي محل أخذ ورد!
والانتباه إلى أن مفهوم المخلِّص مفهوم تراثي موجود في معظم الملل وكلهم ينتظرون مخلِّصاً يقودهم وينتصرون به على غيرهم قتلاً وحرباً وتدميراً، وهو مفهوم خرافي مبثوث في ثقافة الملل الضعيفة والمنهزمة لتبقى تنتظر مخلصها الذي لن يأتي أبداً، ويبقون مستعبدين من قبل فراعنتهم وهاماناتهم.
وهذه مجموعة من الأمور وهي ليست للحصر التي ينبغي أن تؤخذ بعين الجدية حين البحث في النصوص المتعلقة بالنبي عيسى عليه السلام.
1- الوصاية الإلهية ارتفعت عن الجنس الإنساني بكمال الدين وبختم النبوة، فلماذا تعود بعد ارتقاء الجنس الإنساني وتقدمه في التطور؟
2- كيف ينزل النبي عيسى في آخر الزمن، والنبي محمد هو خاتم النبيين ولا نبي بعده؟ ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴿40﴾﴾ سورة الأحزاب
3- لماذا ينزل النبي عيسى إن لم يكن معه أي شيء جديد يقدمه للناس، وسوف يتبع النبي محمد ويحكم بالقرءان؟
4- أليس القرءان محفوظ بيننا إلى الآن وسوف يستمر، فما حاجتنا لنبي يًبعث أو مهدي يخرج، أو نبي ينزل؟
5- وما فائدة نزول النبي عيسى في آخر الزمن قبل انتهاء مرحلة الحياة الدنيا بقليل، أليس الأجدر أن ينزل الآن والأمة في أمس الحاجة على من يقودها ويوحدها؟
6- هل يمكن لإنسان يُستقدم من التاريخ أن يحكم الحاضر؟
7- هل يمكن لإنسان لا يعرف القرءان ولم يسمع به ولم يره أن يحكم بالقرءان؟
8- هل يمكن لإنسان لسانه العربي بدائي أن يتعامل مع اللسان القرءاني العربي المبين؟
9- كيف يستمر إنسان بالحياة إلى ما بعد زمانه ويعيش ليواكب العصر وتقدمه؟
10- ألم يقل الله في كتابه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴿34﴾﴾ سورة الأنبياء، وكلمة (بشر) تشمل كل الناس نبيين وغير نبيين، وكل إنسان يعيش في عصره، فكيف يصفون النبي عيسى بالخلد في الحياة الدنيا واستمراره إلى ما بعد النبي محمد؟
11- ألم يُبعث النبي عيسى لبني إسرائيل، فكيف يصير للناس جميعاً فيما بعد؟
12- ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾﴾ سورة آل عمران، وهذا نص واضح وصريح بأن رسل الله من الأنبياء كلهم خلوا من قبل النبي محمد بمعنى مضوا وانتهى دورهم وخرجوا من الدنيا وفاة بحالة الموت أو قتلاً، والنبي محمد نفسه أيضاً ممكن أن يموت أو يُقتل في آخر عمره بعد إتمام مهمته الرسالية، فكيف ينزل النبي عيسى في آخر الزمن؟ ألم يخلو من قبل النبي محمد ويمضي إلى غير رجعة؟
وبما أن الدين كامل برسالة الإسلام التي أُكملت وجُمعت في القرءان فهذا يعني أن النبي عيسى على افتراض نزوله سوف ينزل دون وحي تشريعي ولا كتاب معه وسوف يحكم بالقرءان ويطبقه فهو متبع للنبي محمد، إذا؛ هو واحد مثل أي واحد من علماء الأمة لا ميزة له ولا حجة في فهمه.
والإيمان والكفر متعلقان بحرية الإنسان ولا يوجد إكراه على أحدهما، ونزول النبي عيسى افتراضاً لن يجعل الناس مؤمنين أو كافرين لأن نزوله لا علاقة له بالحكم على صواب الأفكار، ولا يؤثر على حرية الناس، وهذا يعني أن نزوله أو عدمه سواء.
وهل النبي عيسى عنده علم يصلح لأن ينزل في آخر الزمن ويواكب التطور العلمي والمستوى المعرفي للناس ويستطيع أن يتواصل معهم، لأن كل إنسان هو ابن بيئته العلمية والمعرفية واللسانية.
وعلى افتراض نزول النبي عيسى أليس النبي محمد الخاتمي أولى بالنزول من النبي عيسى كونه من نزل عليه القرءان وهو الخاتمي فلا ينقض فعل الختم للنبوة؟ ومع ذلك نجد أن النبي محمد قد مات مثله مثل أي بشر لانتهاء دوره الرسالي: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾﴾ سورة الزمر، ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴿34﴾﴾ سورة الأنبياء
وكون النبي محمد خاتم النبيين ولا نبي بعده وعلى افتراض صحة نزول النبي عيسى في آخر الزمن فهذا يقتضي أن يُجَرَّد السيد المسيح من النبوة وينزل منزوع النبوة مثله مثل سائر الناس حتى لا ينقض مفهوم الخاتمية للنبي محمد، وإن حصل ذلك فهذا إنقاص من قيمة النبي عيسى ولم يعد له ميزة على الناس ليطيعوه.
وهل رفع النبي عيسى كان للنفس والجسم الترابي معاً؟
فإن كان للنفس فقط فهو وفاة مثل وفاة سائر الناس، والله يتوفى الأنفس حين موتها، وإن كان للجسم أيضاً فهذا باطل لأن الجسم ترابي ولا يصلح للعيش في غير مرحلة الدنيا.
والذي يقول برفع النبي عيسى حقيقة بجسمه يلزم من قوله أن النبي عيسى في حالة سُبات وغيبوبة فاقد للشعور بالزمن وما يجري حوله ضرورة لأن النبي عيسى نفسه نفى فعل الشهادة على قومه في غيابه لعدم علمه بما جرى بعد وفاته، فكيف ينزل هذا الشخص في زمن متقدم على زمنه بآلاف السنوات وهو مغيب عن الواقع ولا يدري ما حصل وسيحصل يريد أن يقود الناس ويعلمهم ؟
هذه نقاط منطقية فكرية تثبت لمن تدبَّرها إثبات وفاة النبي عيسى موتاً وأنه لن ينزل في آخر الزمن، وأن من يقول بنزوله واهم ولا يملك أي برهان سوى التمسك بأهداب النصوص مع التعضية لها وفهمها بمعزل عن المنظومة الحاكمة للقرءان كله، وعدم تدبر منظومة كل موضوع جزئي المنسجمة مع المنظومة العامة للقرءان بلسانه العربي المبين والكون.
ومن أجل هؤلاء سوف أتطرق إلى دراسة كل النصوص الجزئية التي اعتمد عليها أصحاب القول بنزول النبي عيسى في آخر الزمن وتبيين تهافت الاستدلال وقصور الفهم.
تدبر النصوص التي ذكرت قصة النبي عيسى
- ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿45﴾ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿46﴾﴾ سورة آل عمران
الملاحظ من سياق النص أن الكلام مع السيدة مريم وقبل ولادة النبي عيسى، ولذلك أتى فعل (يُكلم) بصيغة المضارع ليخبر عن ما سوف يحصل مع النبي عيسى في مرحلتين (المهد، والكهولة)، وهذا دليل وبشرى لأمِّه أن النبي عيسى سوف يحيى ولن يصيبه مكروه قط من اليهود وسوف يصل إلى مرحلة الكهولة وهو من الصالحين الذين يُصلحون شؤون الناس ويدعوهم لذلك العمل. ولا يوجد في النص أي معجزة كما يظن بعضهم، وإنما هو إخبار للسيدة مريم كبشرى لها واطمئنان على ابنها من اليهود أنهم لن يصيبوه بأذى.
- ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴿33﴾﴾ سورة مريم
وهذا النص هو من كلام النبي عيسى عليه السلام، ولاحظوا أن كلمة(وُلدت) فعل ماضي لحصول الفعل وانتهائه بينما كلمة (أموت) فعل مضارع لعدم حصوله بعد وهو قادم لا محالة، ولم يذكر النص أي دلالة على رفعه أو نزوله في آخر الزمن وهذا حدث عظيم ينبغي أن يذكره لو كان موجوداً في الواقع ويقول: (وسلام علي يوم وُلدْتُ ويوم رُفعْتُ ويوم أنزل ويوم أموتُ ويوم أبعثُ حياًّ).
- ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿49﴾ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿51﴾ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿52﴾﴾ ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ۖ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿56﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾﴾ سورة آل عمران
دلالة الواو في اللسان العربي لا يُشترط لها الترتيب
دلالة (الواو) في اللسان العربي القرءاني لا يشترط لها الترتيب الزمني ولا المعية، فالسياق والقرائن الأخرى تحدد المفهوم لدلالة (الواو) فقد تكون لمجرد التعداد والسرد والجمع، لنقرأ:
﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿39﴾﴾ سورة القمر
انظروا كيف أتت كلمة (نذر) بعد كلمة (عذابي) مع العلم أن النذر هي قبل العذاب
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾﴾ سورة الأنعام، نلاحظ ذكر النبي يوسف وموسى وهارون بعد النبي داوود وسليمان وأيوب رغم أنهم من الناحية الزمنية أتوا قبلهم، وهذا لا يعني أن مجيئهم في النص بهذا الشكل هو عبثي أو اعتباطي، فلاشك بوجود حكمة ومقصد بحاجة لبحث ودراسة، وهذا ليس نقطة البحث حالياً، وإنما نقطة البحث هي دلالة (الواو) وأنها لا يشترط لها الترتيب الزمني أو المعية، نحو قولنا: اشترى زيد تفاحاً وبرتقالاً وموزاً من السوق. فالسامع لا يعرف هل البرتقال أولاً أم التفاح أم الموز، وهل اشتراهم في وقت واحد أم على أوقات مختلفة، فهذا بحاجة لقرائن لتحدد تلك المعلومات، وكذلك قولنا: سافر زيد إلى مصر وسورية والعراق وتونس. كذلك لا يعرف السامع أي بلد كان الأول سفراً، وهل كان السفر متتالياً وراء بعضه أم منقطعاً. ولنقرأ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾﴾ سورة التوبة
فالواو ليست لترتيب المذكورين وإنما تعداد لهم، ولا يهم بأيهم تبدأ، وهذا لا يعني عدم وجود مقصد من مجيء الصيغة بهذا الشكل فيوجد مقصد ومعلومات كامنة في النص تحتاج إلى من يدرسها ويظهرها للناس وهذا موضوع آخر ليس نحن في صدد دراسته حالياً.
واقرؤوا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ...﴿6﴾﴾ سورة المائدة
وبناء على أن الواو لا يشترط في دلالتها الترتيب اختلف الفقهاء في حكم الترتيب في غسل أعضاء الوضوء إلى رأيين: الوجوب أو الندب، والصواب هو أن الترتيب ندب في غسل أعضاء الوضوء كما ذكرت في القرءان، والأَوْلى الالتزام بالترتيب مع صحة الوضوء دون ترتيب لها.
ونأتي للنص المعني الآن وهو: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾﴾ سورة آل عمران، ولتحديد دلالة (الواو) في النص لابد من استحضار سياق النص وفق محله من النصوص التي قبله وتشكيل رؤية للحدث كما حصل في الواقع، نلاحظ أن اليهود مكروا بالنبي عيسى يريدون قتله ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ۖ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فتدخل الله و أعلم النبي عيسى أنه سوف يموت موتة طبيعية بقوله (إني متوفيك) نافياً بذلك قتله من قبل اليهود وإفشال مكرهم، وأتى ذلك الخبر في بدء الكلام لأهميته بالنسبة للنبي عيسى وخوفه على حياته، وليس أن الوفاة هي الحدث الأول من بين المذكورين بعدها، وخاصة أن كلمة (متوفيك) هي اسم فاعل من الفعل الرباعي (توفى) وليس من الفعل الثلاثي (وفى) وفعل التوفي لم يحصل بعد بدليل الكلام مع النبي عيسى نفسه، وأتى ذكر ما سوف يحصل مع النبي عيسى بعد إنقاذه من مكر اليهود ﴿...وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ والرفع هو النجاة للنبي عيسى وإخراجه من الأرض الظالم أهلها إلى أرض أخرى يؤمنوا به وبدعوته لأن الله ليس له جهة مكانية حتى يرتفع أحد إليه، و الرفع للنبي عيسى هو في الدنيا وهو متعلق بالنجاة و الحماية والنصر والتأييد للنبي عيسى ودعوته وليس الرفع المكاني، اقرؤوا قوله تعالى:
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴿176﴾﴾ سورة الأعراف
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿32﴾﴾ سورة الزخرف
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾﴾ سورة الشرح
فالرفع في النصوص هذه هو رفع درجات وقيمة وليس رفعاً مادياً.
وكلمة ( إليه) لا تعني الانتقال المكاني (من إلى) كقولنا: ذهب علي إلى الحج، فهذا انتقال مكاني من نقطة محددة إلى أخرى، وليس لله مكان حتى يرتفع إليه أحد، غير أن وجود الله مغاير لوجود الخلق ولا يجري عليه ما يجري على الخلق من انتقال أو زوال،اقرؤوا قوله تعالى:
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴿10﴾﴾ سورة فاطر
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿26﴾﴾ سورة العنكبوت
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾﴾ سورة الصافات
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿50﴾﴾ سورة فصلت
﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿281﴾﴾ سورة البقرة
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾﴾ سورة آل عمران
﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴿158﴾﴾ سورة آل عمران
﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿100﴾﴾ سورة النساء
﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴿62﴾﴾ سورة الأنعام
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿50﴾﴾ سورة الذاريات
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿28﴾﴾ سورة البقرة
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴿156﴾﴾ سورة البقرة
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴿10﴾﴾ سورة فاطر
ولذلك أتى في نص آخر ذكر الرفع للنبي عيسى دون الوفاة وهو قرينة على أن الرفع له قبل حدث الوفاة والواو ليست للترتيب الزمني للأفعال ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴿157﴾ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿158﴾﴾ سورة النساء، فالنص صريح بأن الرفع للنبي عيسى أتى بعد محاولة قتله وهو نجاة وإنقاذ له من مكر اليهود، ولم يتوفاه بعد.
ومطهرك جسمياً بحيث لا يصيبك أي أذى، ومطهرك معنوياً حيث تحافظ على سلامة اطمئنانك النفسي وعدم الإساءة لك من القوم، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وهم المسيحيون والمسلمون فيما بعد من أتباع النبي محمد فهم أتباع للنبي عيسى أيضاً وكل نبي كريم.
فلا دلالة في النص هذا على رفع النبي عيسى إلى السماء وخاصة عدم وجود كلمة السماء في النص أصلاً، وبالتالي يسقط الاستدلال به.
دلالة كلمة التوفي في القرءان
كلمة توفى من وفى وهي تدل لساناً كمفهوم على ضم مكاني ممتد منفتح بامتداد وإثارة.
وثقافة دلت على الجمع والقبض والأخذ والتناول والعطاء والإرجاع الكامل للشيء، ومنه الوفاء وهي تدل على الإخلاص وعدم الغدر ورد المعروف بالمعروف وحفظ الأمانة وإرجاعها
1- الوفاة بمعنى العطاء أو الأخذ أو الاستلام أو القيام بما تعهد الإنسان به أو إرجاع أو التناول الكامل للحق
﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿281﴾﴾ سورة البقرة
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿50﴾﴾ سورة الأنفال
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴿7﴾﴾ سورة الإنسان
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴿20﴾﴾ سورة الرعد
2- الوفاة بمعنى الأخذ أو القبض للنفس الذي يترتب عليه موت صاحبه
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿5﴾﴾ سورة الحج
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿67﴾﴾ سورة غافر
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾﴾ سورة يونس
﴿وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿70﴾﴾ سورة النحل
﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿11﴾﴾ سورة السجدة
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿50﴾﴾ سورة الأنفال
﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾﴾ سورة الأعراف
﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ﴿193﴾﴾ سورة آل عمران
3- الوفاة بمعنى النوم
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾﴾ سورة الأنعام
4-الوفاة بمعنى الموت والنوم معاً
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾﴾ سورة الزمر
كلمة التوفي مجردة المتعلقة بالإنسان دون قرينة يقصد بها الموت، مثل﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾﴾ سورة الأعراف، وإن تقيدت بلفظ معين تأخذ حكمه مثل التوفي أثناء النوم دون موت الجسم، مثل - ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾﴾ سورة الأنعام
وكلمة التوفي المتعلقة بالإنسان في القرءان مجردة عن قرينة يكون تعلقها بالموت ضرورة. ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾. ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾
والسؤال المعروض الآن هل يُتَوفي النبي عيسى مرتين أم مرة واحدة؟
دلالة (من) في اللسان العربي
- ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿156﴾ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾ بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159﴾﴾ سورة النساء
والنص صريح في نفي القتل عن النبي عيسى، ونفي الصلب عنه، وبصرف النظر عن التفاصيل هل وضع على الصليب وأُنزِل منه حيّاً، أم لم يوضع أصلاً على الصليب وأنقذه الله (وهذا ما أرجحه)، فالذي حصل هو أن الله رفعه إليه وذلك دون توفي للنبي عيسى لذلك لم يذكر التوَفِّي في النص هذا، والرفع للنبي عيسى هو وصف لإنقاذه من مكر اليهود وعدم إصابته بأي أذى منهم، وكلمة (إليه) ليست مكانية وغير متعلقة بنفس الله، وإنما متعلقة بمن يحملون أمر الله من الناس الذين سوف يؤمنون بالنبي عيسى.
وكلمة (من) في اللسان العربي القرءاني تأت على عدة أوجه من الدلالات، ويحدد معناها من السياق ومحل الخطاب، ولنرى ذلك من خلال بعض الأمثلة.
(من) البيانية والتفسيرية:
- ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴿21﴾﴾ سورة الحجر
- ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴿44﴾﴾ سورة الإسراء
- ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ﴿71﴾﴾ سورة مريم
(من) التبعيضية:
- ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿199﴾﴾ سورة آل عمران
- ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾﴾ سورة المائدة
- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿14﴾﴾ سورة التغابن
دلالة (إنْ) المخففة غير دلالة النافية
أداة (إنْ) هي من (إنَّ) المخففة وليس (إنْ) النافية ويعرف الفرق بينهما من تعلق الخطاب بمحله والسياق والقرائن التي تناولت الموضوع وليس من الصيغة اللسانية مجردة وقياسها على نص آخر مطابق لها بالصيغة وإعطائه الحكم ذاته رغم اختلاف تعلقهما في الواقع ومحل الخطاب، فالفهم للخطاب هو الموجه والمعيار لتصنيف نوع الكلمات، ولذلك يقول أهل النحو: افهم ثم صنف نوع الكلمات عربياً، وكلمة (من) في النصين هي تبعيضية وليست بيانية، والضمائر في كلمة (به، وموته، وضمير فعل الكون) يرجعون للنبي عيسى، والقرينة هي المنظومة التي ينتمي إليها كل نص منهما، فترتيب نص إيمان جماعة من أهل الكتاب بالنبي عيسى أتى بعد أن أنقذه الله من مكر اليهود، ولم يأت ذكر للوفاة في النص قط، وهذا يدل على أن النبي عيسى مازال حياً في الدنيا، ولذلك أتى ذكر موت النبي عيسى بالنص بقوله (قبل موته).
واقرؤوا أيضاً: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿115﴾﴾ سورة الشعراء، لاحظوا كلمة (إن) وأتى وراءها حرف (إلا) و حرف (إنْ) للنفي، وأداة (إلاّ) حسب القاعدة المعروفة تفيد الحصر لأنها سُبقت بنفي. ولكن الواقع إن النبي ليس مهمته محصورة بالإنذار فقط، اقرؤوا:﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188﴾﴾ سورة الأعراف، وهذا يعني أنه من الخطأ تقييد أنفسنا بقواعد لغوية موضوعة من قبل البشر اصطلاحاًً، والذي يحكم حركة النص ويوجه معناه هو السياق ومحل الخطاب في الواقع من خلال تشكيل مفهوم كلي عن الشيء المعني بالدراسة، ومن الخطأ جلب نص آخر مطابق بصيغته اللسانية وفهم أحدهما على ضوء الآخر بمعزل عن اختلاف الموضوع بينهما وعدم إرجاع كل واحد منهما إلى منظومته، فأداة (إنْ) في النص ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿115﴾﴾ سورة الشعراء، ليست أداة نفي وإنما هي (إنْ) المخففة عن (إنَّ) المشددة، وبالتالي أداة (إلاَّ) ليس للحصر، وليس أداة استثناء لعدم وجود مستثنى منه، إذاً؛ أداة (إلاَّ) في النص هي لتأكيد الفعل الذي يأتي بعدها، وبناء على هذا ينبغي أن نفرق في المفهوم بين صيغ النصوص المتطابقة بالصيغة ولكن مختلفة بالموضوع، والذي يحكم دلالة النص ومفهومه ويوجهه ويحدد نوع أدواته هو محل الخطاب من الواقع.
لنقرأ لتثبيت الفكرة:
- ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴿144﴾﴾ سورة آل عمران.
- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿107﴾﴾ سورة الأنبياء
- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴿56﴾﴾ سورة الفرقان
- ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴿20﴾﴾ سورة الفرقان
فحرف (ما) ليس نافياً ولا اسم موصول بمعنى الذي، وإنما هو حرف توكيد، وأداة (إلاَ) ليس استثناء ولا حصر، وإنما هي أيضاً توكيد.
وهكذا النص الذي نحن بصدد دراسته:
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159﴾﴾ سورة النساء، ينبغي فهمه على ضوء نصوص أخرى وتشكيل مفهوم كلي عن حياة ووفاة النبي عيسى وبناء عليه نحدد هل أداة (إلاّ) للحصر أم للتأكيد و (إنْ) للنفي أم المخففة، و(منْ) بيانية أم تبعيضية.
وفي موضوعنا النصوص المحكمة هي:
1- إثبات بشرية النبي عيسى وأمه وأنهما ينطبق عليهما ما ينطبق على سائر البشر ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾﴾ سورة المائدة
2- إثبات وفاة كل إنسان في عصره وعدم خلوده في الحياة الدنيا ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴿34﴾﴾ سورة الأنبياء
3- خلو كل الرسل النبيين من الله قبل النبي محمد وفاة أو قتلاً ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿144﴾﴾ سورة آل عمران
4- إثبات حصول موت النبي محمد ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾﴾ سورة الزمر
5- إثبات أن النبي عيسى سوف يموت مثله مثل سائر الناس ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴿33﴾﴾ سورة مريم
6- إثبات وفاة النبي عيسى ومغادرته الحياة الدنيا موتاً وانقطاع علمه بها ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿177﴾﴾ سورة المائدة.
7- ختم النبوة ببعثة النبي محمد ولا نبي إلهي بعده ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴿40﴾﴾ سورة الأحزاب
8- رفع الوصاية الإلهية المباشرة عن الجنس الإنساني لاكتمال الدين الإسلامي وإتمام النعمة ورضي الإسلام دينا للناس، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴿3﴾﴾ سورة المائدة
9- هل مجرد رؤية النبي عيسى وثبوت أنه ليس إلهاً لإنسان هو دافع حتمي للإيمان به أم أن الإيمان متعلق بالحرية ومشيئة الإنسان؟
هذه النقاط هي التي تحكم أن وفاة النبي عيسى هي وفاة موت وليس وفاة نوم، ولن يرجع مرة ثانية إلى الحياة الدنيا، وينبغي تدبر النصوص الأخرى على ضوئها وعدم نقضها.
وشهادة النبي عيسى شهادة شهيد حضورية سمعية بصرية قبل وفاته، والوفاة له تدل على مغادرته الحياة الدنيا بدليل قوله(مادمت فيهم)، ولا يوجد أي نص صريح يخبر أن الله سوف يبعثه مرة ثانية من المتوفين ويعيده إلى الدنيا ومن ثم يرجع ويتوفاه مرة ثانية .
مفهوم الإيمان غير العلم
وبدليل دلالة كلمة الإيمان فهي تعني التصديق والعلم المقترن بالعمل والطاعة والانقياد أو عقد ذلك بالنفس، ولا تعني قط مجرد التصديق أو العلم، فهذا لا يُسمى إيماناً ولا يُنجي من النار أصلاً، فإبليس كان مصدقاً بوجود الله، ويعلم أن الله حق، وهو واحد أحد، ويصدق بوجود اليوم الآخر، ولكنه لم يؤمن بالله، بمعنى أنه لم يطع أمر الله وكان من الفاسقين الكافرين، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿75﴾﴾ سورة ص، ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴿158﴾﴾ سورة الأنعام، فالإيمان لابد له من ترجمة حقيقية على أرض الواقع، فما قيمة التصريح بالإيمان قبل ومضة من الموت المؤكد وهو لا يستطيع ترجمته على الأرض من عمل صالح لانتهاء فرصته التي مُنحت له في الدنيا، انظروا لفرعون ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿90﴾ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿91﴾﴾ سورة يونس
فالإيمان ليس كلمة تلفظ باللسان، وإنما هو موقف قلبي من الولاء والتبني والنصرة والشهادة مبني على التصديق والعلم، وهذا يؤكد أن الإيمان من أهل الكتاب بالنبي عيسى كان متعلقاً بحياتهم وحياته، ولذلك أتى تتمة النص ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ فماذا تعني كلمة شهيد؟
مفهوم الشاهد والشهيد والفرق بينهما
يوجد في اللسان العربي صفة مشبهة باسم فاعل على وزن (فَعيل) وهي لازمة للموصوف كحال له مثل كلمة (عليم)، ويوجد اسم فاعل على وزن (فاعِل) مثل كلمة (عالم) وهي متعدية.
لنقرأ: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿26﴾﴾ سورة يوسف، واضح من سياق القصة أن الشاهد لم يكن حاضراً الحدث واعتمد على معطيات معرفية واقعية قرأها بخبرته ليتصور كيف حصل الحدث.
فالشاهد غائب عن الحدث ولا يعلم به حين حصوله وإنما يأت بعده ويستخدم علمه وخبرته لينشئ تصوراً للحدث ويشهد شهادة معرفية مثل شهادة الطبيب الشرعي لوفاة إنسان، بينما الشهيد يكون حاضراً الحدث بعلم ووعي له ويشهد شهادة علم حضورية متعلقة بالسمع والبصر لكيف حصل الحدث، ومن هذا الوجه لا يصح وصف الله باسم شاهد لأنه حاضر دائماً يسمع ويرى فهو شهيد. وشهادة النبي عيسى على إيمان جماعة من أهل الكتاب به شهادة شهيد وليس شهادة شاهد، بمعنى أنه كان حياً معهم وبينهم يسمع ويرى، وكلاهما توفاهم الله، ولذلك أتى النص الآخر بسياق: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿117﴾﴾ سورة المائدة، فكان النبي عيسى شهيداً على قومه مادام فيهم فلما توفاه الله بمعنى الموت توقفت شهادته لانقطاع علمه وسمعه وبصره وخروجه من الدنيا، وترك أمر العباد لشهادة الله فهو الشهيد عليهم، والنص صريح بحصول وفاة واحدة للنبي عيسى وليس وفاتين، وحصول شهادة واحدة حينما كان فيهم يسمع ويرى.
مفهوم: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾
عائدية الضمائر
معظم التفاسير نقلت عن بعضها تأثراً بحديث نزول النبي عيسى فقالت:إن المقصود من النص هو النبي عيسى نفسه، ويوجد مفسرين نقلوا الرأيين، ويوجد من رجح إنه القرءان وليس النبي عيسى. والصواب هو أن الضمير يرجع إلى القرءان، والمقولة التي تقول: يرجع الضمير لأقرب مذكور قبله، ليس قاعدة علمية لسانية وإنما هي مقولة أهل النحو وخاصة بكلام الناس فما ينبغي أن يرجع أحد الضمير أثناء كلامه لاسم سابق نسيه الناس ومضى عليه وقت فيصيبهم بالضلال والضياع والانحراف عن فهم المقصود، بينما أسلوب القرءان مختلف تماماً عن أسلوب كلام الناس فيمكن أن يرجع الضمير إلى أول الكلام من السورة أو قبل مجموعة من النصوص، والقاعدة في عائدية الضمائر هي السياق ومعنى الكلام وليس القرب والبعد للضمير.
وضمير المذكر الغائب في قوله ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ مراد به القرآن وبذلك فسَّرَهُ الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فيكون هذا ثناء ثامناً على القرآن، فالثناء على القرآن استمرّ متصلاً من أول السورة آخذاً بعضه بحُجز بعض متخلَّلاً بالمعترضات والمستطردات ومتخلصاً إلى هذا الثناء الأخير بأن القرآن أعلم الناس بوقوع الساعة .
ويفسره ما تقدم من قوله : ﴿بالذي أُوحي إليك ﴿43﴾﴾ سورة الزخرف ويبينه قوله بعده ﴿إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، على أن ورود مثل هذا الضمير في القرآن مراداً به القرآن كثير معلوم من غير معاد فضلاً على وجود معاده .
ومعنى تحقيق أن القرآن عِلْم للساعة أنه جاء بالدين المكمل للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم . وهذا معنَى ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم « بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى مشيراً إليهما » والمشابهة في عدم الفصل بينهما .
وإسناد ﴿لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه. ويجوز أن يكون إطلاق العلم بمعنى المُعْلِم، من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل مبالغة في كونه محصلاً للعلم بالساعة إذ لم يقاربه في ذلك كتاب من كتب الأنبياء .
ويرجع الضمير: ﴿وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها﴾ أيضاً إلى بدء السورة ﴿حم ﴿1﴾ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿2﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَربياًّ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿3﴾.....﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾﴾ سورة الزخرف.
فالنبي عيسى ليس علماً للساعة وليس هو الصراط المستقيم.
لذا؛ ينبغي على علماء المسلمين أن يزيلوا هذه الخرافات من تصوراتهم وثقافتهم ويحاربوها وينشروا الوعي بين المسلمين، وأن لا ينتظروا نزول المسيح، ولا شبيهه الأحمدي القادياني، ولا ظهور المهدي المزعوم عند الشيعة أو أهل السنة أو الأحمدية، ولا وصاية لأحد على الأمة الإسلامية لا نبي ولا مهدي ولا غيره من المجتمعات السابقة، وكل مجتمع مسؤول عن نفسه وعن نهضته.
التعليقات على الموضوع (20)